
د/ماجد فياض
تصاب بضيق تنفس ، ويضيق صدرك ، وينقبض كأنما تَصّعدُ في السماء ،ولا تدر السبب أيعقل هذا وأنت ما تزال في ضيافة ، وصحبة هذه الأشجار الكريمة ؟ التي فتحت لك أوراقها ، وقالت لك ( ولقد مننا عليك مرة أخري) !!
فها هي تنثر علي رئتيك المتعبة أطيب وانقي الهواء أم هو أنين قلبك يا فتي الذي تركته هنا ذات يوم يلهو بين هذه الترع ، والقنوات و أشجار المانجو ، والمشمش ، والزيتون ؟؟ تلك التي يقتلعونها الآن كي يبيعونها لتجار الأخشاب كما تُساق الجواري إلي سوق النخاسة ، وكأنما قست قلوبهم فأصبحت كالحجارة .
يأتيني صوت متعب لفلاح من بعيد أأنت أيضأ تقسو علينا ؟
ألم تتمرد هذه الأشجار أولا حين ضنت بطرحها وأخرجت لنا لسانها حين أتي وقت الحصاد ؟ وما ذنب الأفواه و البطون الخاوية التي تصارع كل شئ في هذا الوطن وهناك شيكات بنكية قد حان وقت سدادها ؟
يا عم أرأيت إذا عاد شاب فلسطيني إلي مدينته وضياعها فوجدها قد تهودت وتغيرت لافتات الشوارع والبيوت وملامح الناس والساكنين هل تدرك فداحة مصابه ؟؟
آتني الآن بشجرة مشمش واحدة من بين مئات الآلاف الأشجار التي كانت تضرب بجذورها في أراضي قريتنا العريقة واختفي معها أصوت البلابل وطغي علينا صوت التكتوك وأصحاب المهرجانات!
واختفي الصمغ الذي كنا نراود عنه سيقان أشجار المشمس فنراه يَسَاقط كالدموع ونضعه على النار حتي ينصهر فنلصق به ما تفكك من الكتب والكراسات !!
قل لي أنت كيف تغيرت ملامح القرية بين عشية وضحاها ولم يعد فيها أزهار المشمش البيضاء التي تذهب بالأبصار والتي تحكي لنا توابع الفصول وانتصار الأشجار علي المناخ
وكيف أحكي لأولادي عن مراحل نمو ثمرة المشمس من الخضراء الواهنه ضعيفة النواه حتي يصير لها خد أحمر فتصبح صفراء فاقع لونها يسر الناظرين ، وعن النواة التي أطعم من اللوز عند المشمش الحموي.
أنا وحدي افنيت ما افنيت من عمر المشاعر أمام هذه الأشجار فهنا بين هذه القنوات والترع كنت أردد أبياتا تغني فيها ابن الرومي لثمر المشمش
قشر من الذهب المصفى ….حشوه شهد لذيذ طعمه للجاني
ظلنا لديه ندير في كأساتنا ….خمرا تشعشع كالعقيق القاني
أنا مخنوق وهذه الطاقة السلبية، كانت تفر بالبوح أمام
هذه الأشجار التي كانت تختبئ العصافير فيها ، فهل تعرف يا عم فداحة الخيبة والخذلان الذي أنا فيه؟!
أهي سنة الله في خلقه وحتمية التغير في الأرض فينبت أشجارا ويرفع أقواما ويخفض آخرين ؟! أم أننا لم نحفظ النعمة ، ولم نؤت حقها يوم حصادها وأكلنا منها ولم نطعم القانع والمعتر؟؟
هل تذكر حين تولي البعض كبره منا فألقوا بثمار المشمش في الترع الصغيرة حين باعوه بثمن بخس أقل من تكلفة حصاده ، فهل عاقبنا الله بالأمراض تلو الأمراض التي انهكت أجساد الأشجار ؟ فاقتلعناها بأيآدينا حين شاخت وأصبحت عبئا ثقيلا بعدما كانت القرية تُصدر مئات الأطنان من المحصول يوميا علي مدة شهر كامل هو عمر الموسم القصير
بينما انشغلت الجمعية الزراعية كعادتها بتلقي الرشاوي من البناء علي ما تبقي من الأرض الخضراء.
أهو نفسه الآن الذي يحدث مع أشجار المانجو لكن صدقوني معظم من في بلدنا لم يأكل من ثمارها حد الشبع والإمتلاء فقد كنا نستخسرها في أنفسنا ونضعها في أقفاص مصنوعة من ( جريد) النخل ذات مرايا شفافة كاشفة عن تورد خدودها وعبق رائحتها الشهي حتي نقبض ثمنها
ولم نلق بها ذات يوم في المصارف والترع بل ما نزال نتودد لثمارها حتي حين يضربها العفن !.
فلماذا هذه الأمراض التي تتوالى علي الشجر المنهك وآخرها (العفن الهبابي) ولماذا تنشغل الجمعيات عن دورها ولا تزال تهرول لتلقي الرشاوي في التصالح مع المخالفات وفي تسوية البناء علي الأرض الزراعية.
انهيار أشجار المانجو واختفاء أشجار المشمش المطلق من قبل ليست مشكلة قرية محلية خاصة بل حالة عامة تعلن أننا لم نعد بلدا زراعيا ولا صناعيا ولا حتي تجاريا بل أصبح الوطن يعيش علي ثمن الاغتراب وهو ثاني أكبر مصدر للدولار فيدفع ابنه دفعا للفرار منه حتي لو قفز في أقرب مركب شراعي متهالك لا يجد ما يستر سوءته متزودا بما ألقي الشيطان في أمنيته .