نحن في حاجة ماسة إلى فك الاشتباك الذي فرضته أيديولوجيات الإسلام السياسي بين الدين والسياسة.
أقتبس عنوان مقالي هذا من توصيف المفكر المصري يوسف زيدان لما أسماه باستقطاب الدين في عوالم السياسة، وهو حال متردٍ ينطبق بشكل كبير على واقع مجتمعاتنا المصابة بداء توظيف الدين لصالح الدنيا، وقد بلغ هذا الأمر لدينا مستويات قياسية غلبت على مجتمعات العالم، ما ألحق أكبر الأذى بالدين الذي أصبح مرتعاً خصباً لكل طامح بالسلطة.
وبات بوسع الراغب في الوصول إلى مواقع النفوذ أن يشق طريقه إليها مدعوماً من حركات وجماعات إسلاموية منظمة، لا تعي مقاصد دين الله وروحانيته السمحة، بل إنها تنطلق في مسعاها نحو السلطة من أيديولوجية مبتسرة تهدف إلى التركيز على ممارسات التدين الشكلي الطقوسي المتشدّد، الذي يحتفي بالمظاهر الخارجية على حساب النقاء والبعد عن المغالاة والتعصب. وفي اعتقادي، فإن هذه الأيديولوجية ضيّعت الدين بسبب مطامع رعاتها، وضيعت الساسة بالمقابل بسبب جهلهم وقصور مداركهم في العمل السياسي. وهذا بالذات ما حكم على أغلب دول منطقتنا بأن تكون نموذجاً لـ”الدولة الفاشلة”.
لا جدال في أن للدين أهمية وحضورا كبيرين في المجتمع، خصوصاً عندما يكون مؤثراً وشاملاً كالدين الإسلامي الذي يمكن استلهام مبادئه في وظائف اجتماعية متعددة على الصعيد الاقتصادي أو القانوني أو الأخلاقي والتربوي، واستطاع بمُثُله وواجباته النفاذ إلى بنية الوظائف الاجتماعية حتى صار مكوناً جوهرياً لها لا يمكن أقصاؤه عن حياة الناس وعلاقاتهم. غير أن إقحام الدين في السياسة أمر مختلف تماماً، لم يكن يوماً ما موضوعاً مسلماً به عند المسلمين. وأعتقد أن ما يحفظ للدين استمراريته وأهميته في وجدان المؤمنين به، هو قدرته على الثبات وترفّعه عن كل ما يلحق بالسياسة ومؤسساتها السلطوية، خلافاً للسياسة التي لا تعرف الثبات ولا نزاهة المصالح. وعليه يمكن إعادة صياغة العبارة الشهيرة حول “فصل الدين عن الدولة “على نحو مختلف بحيث يمكنني القول بأنه لا يمكن فصل الدين عن المجتمع ولكن من المقدور عليه فصله عن الدولة، خصوصاً في ضوء التمييز بين الدولة والمجتمع باعتبار أن الأخير فضاء نشاط الأفراد وتفاعلاتهم بعيداً عن مؤسسات الدولة وسلطويتها.
بالعودة إلى التاريخ الإسلامي، يجد المرء أن الحقبة المبكرة منه شهدت ظهور حركة الخوارج التي رفعت شعار “لا حكم إلا لله”. وهذا قول حق أريد به باطل، بعدما نُقل من سياق التشريع والقانون إلى سياق السلطة والدولة، فكان الخوارج أول من دعا إلى “تسيس الدين وتديين السياسة”. وهم أقدم جماعة إسلاموية حوّلت الدين إلى أيديولوجية سياسية دنيوية في سياق الصراع السياسي الذي خاضته مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين الذي كان يمثل “رأس السلطة السياسية” آنذاك. وكانت أفعال الخوارج وأقوالهم بمثابة الخطوة الأولى لجهة المضي بـ”المقدس” إلى ملعب “المدنس”.
غيّب التاريخ الخوارج لكنه لم يطوِ صفحة الفتنة التي طبعت التاريخ الإسلامي في فترات لاحقة بهذه الرؤية المؤدلجة للدين؛ والتي يزعم أصحابها السعي إلى إقامة “مدينة الله” على الأرض، وهي الأطروحة التي تلقفتها في عصرنا الحاضر جماعات إسلاموية ترفع شعار “الإسلام دين ودولة” طامحة لإقامة الدولة الدينية الفاضلة على حد زعمها!
واليوم، تسعى هذه الجماعات على اختلاف ألوانها ومشاربها إلى توظيف النص الديني في سبيل إقامة دولتها المنشودة. ولذا حاولت الاستيلاء على الدولة وأجهزت عليها بشتى الطرق والأساليب، مدججة بسلاح امتلاك الحقيقة المطلقة المزعومة للدين من خلال وصف نفسها بـ”الفرقة الناجية” أو “جماعة المسلمين” الناطقة بلسان السماء، وكأنها ظل المقدس ووكيله على الأرض.
هكذا امتزج الديني بالسياسي على يد أنصار الإسلام السياسي في مجتمعاتنا، فأضرم فيها نار الفرقة والعنف. وكان هذا المزيج السام قد دفع بمجتمعات أخرى مارست اللعبة الخطرة نفسها، إلى ميادين حروب أهلية اندلعت على أساس المذهب الديني أو الطائفة، فمزقت البلاد وشردت العباد.
وفي الحقيقة، فإن تغييب الخطوط الفاصلة بين ما هو ديني ودنيوي قد زجّ بمجتمعاتنا في أتون الفرقة التي جاء الدين في الأصل ليزيل أسبابها، بل أدى هذا الخلط بين الدين والسلطة الدنيوية إلى جحيم العنف المادي والمعنوي؛ فارتكبت أبشع أنواع الجرائم الإرهابية باسم الله، وامتدت حرائق الإرهاب إلى المجتمعات التي هاجر إليها المسلمون فراراً من جحيم أوطانهم الأصلية التي تشهد الاقتتال والصراع السياسي المذهبي والطائفي.
لقد شوهت جماعات التسييس الديني رسالة الدين، وحرّفتها عن مقاصدها الروحية المتسامية، وشكّلتها على أهواء البشر؛ وساهمت بغير وجه حق في نشر ثقافة دينية قاصرة الرؤية تقوم على الكراهية والتعصب والاستعلاء تجاه الآخر المختلف عنها في الدين أو المذهب أو الطائفة أو الرأي. وبذلك جرّدت الدين من بعده الإنساني الذي يروم سعادة الناس، وجعلته بمثابة أيديولوجيا جامدة ومغلقة، تعادي الإنسان والحياة على حد سواء؛ فتكون “كالمُنْبَتِّ.. لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى”!
أخيراً.. ماذا بعد هذا النفق المظلم؟
نحن اليوم في حاجة ماسة، أشدّ من أي وقت مضى، إلى فك هذا الاشتباك الذي فرضته أيديولوجيات الإسلام السياسي بين الدين والسياسة. وهذا ما أخاله الطريق الصحيح لتنزيه الدين وإخراجه من ملاعب الدنيا، ليعود إلى نقائه الأول كرسالة إلهية جاءت للعدل والإنصاف والمحبة والتسامح والسلام، ويؤدي وظائفه الروحية والاجتماعية والإنسانية، بعيداً عن عالم السياسة وشروطه، ولتسقط بذلك صفة العصمة عن كل من يريد العمل في السياسة، فيعود مثله كمثل بقية الناس، يصيب ويخطئ، ولا يدعي أنه مفوض باسم الدين وأن سلطته مستمدة من الحق الإلهي المقدس أو أن مشروعه السياسي مضمون بسنده للعقيدة أو الإيمان. أما غير ذلك، فلن يزيد هذا النفق المظلم إلا حلكة وضلالاً، لأن أدلجة الدين من خلال تسييسه أو فرض الدين على السياسة من قبل الجماعات أو الدول ستفتح الباب على شرور كبيرة ومآلات مرعبة، غالباً ما تفضي إلى تكفير الناس وشيطنتهم ومن ثم استباحة دمائهم وأعراضهم وأرزاقهم. نقلا عن العرب .