قصة جبل أولياء أقدم حاميات الجيش بالخرطوم
الحامية التاريخية وقفت شاهدة على أحداث مفصلية بالسياسة والسلاح لا تقتصر بالسودان وحده بل امتد تأثيرها القوي على مجريات الأحداث المثيرة بمحيطنا العربي
حامية جبل أولياء تُعد إحدى الحاميات العسكرية التاريخية للجيش بالخرطوم. تقع الحامية في منطقة ذات طبيعة جبلية على النيل الأبيض كما يبدو للوهلة الأولى من اسمها، ومن موقعها الاستراتيجي المذكور عهد إليها حراسة البوابة الجنوبية للخرطوم.
الحامية التاريخية وقفت شاهدة على أحداث مفصلية بالسياسة والسلاح لا تقتصر بالسودان وحده، بل امتد تأثيرها القوي على مجريات الأحداث المثيرة بمحيطنا العربي.
ففي ثكناتها، خدم زعيم عربي شهير، وفيها وضع اللبنة الأولى لتنظيمه السري الذي غيّر مجرى التاريخ في بلاده، كما رفض ديكتاتور سوداني مُستبد دكّها بالمدافع والدبابات بعد أن تأخرت عن التأييد عقب تنفيذه انقلاباً عسكرياً أطاح بالسلطة القائمة كما سَنُفصِّل تالياً.
حامية جبل أولياء على أهميتها المعروفة تلك، اكتسبت ميزة إضافية بالقتال المحتدم حالياً في الخرطوم بين الجيش السوداني والدعم السريع، إذ تُعد أقوى وأقرب الحاميات العسكرية للجيش السوداني لأضخم معسكرات الدعم السريع بمنطقة “طيبة الحسناب”، التي كانت تُعَـد في السابق أعتى مواقع الدعم السريع الحصينة جنوبي الخرطوم.
وشهدت الأسابيع الماضية ازدياد مطامع الدعم السريع للاستيلاء على حامية جبل أولياء وقاعدة النجومي الجوية، وتهدف قوات الدعم السريع من وراء تلك المغامرة، إلى إصابة عدة عصافير بحجر واحد، وتتمثل في تأمين خطوط الإمداد من جنوب الخرطوم، وأن يصبح الطريق من جبل أولياء إلى وسط الخرطوم وقلبها النابض المعروف بـ”الداون تاون” سالكا ومؤمنا أمام أي إمداد عسكري مضاد، خاصّة عندما تبدأ مهاجمة مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، ومقر سلاح المهندسين بمدينة أم درمان.
كما تريد قوات الدعم السريع منذ وقت طويل وعبر هجمات متكررة ضم منطقة جبل أولياء العسكرية بمكانتها الكبيرة، إلى المناطق الواقعة تحت سيطرتها، والذي سيعني ضمنياً انتهاء سيطرة الجيش على جميع الوحدات العسكرية بمناطق جنوب الخرطوم.. فهل يحصل ذلك؟!
قاعدة “النجومي” الجوية
قاعدة النجومي الجوية بمنطقة جبل أولياء العسكرية، تعد من الوحدات القتالية المتطورة بالجيش السوداني.
الدعم السريع سيطر عليها منذ بدء القتال في 15 أبريل الماضي، وتمت استعادتها من قبل عناصر الجيش السوداني، بعد معارك وصفها بالعنيفة دارت داخل القاعدة الجوية نفسها. وأكدت مصادر عسكرية حينها أن قاعدة “النجومِي” الجوية، دخلت الخدمة فور استعادتها من الدعم السريع مطلع يونيو/حزيران الماضي.
يذكر أن قاعدة “النجومِي” الجوية أنشئت عام 1976م بمنطقة جبل أولياء العسكرية، قبل نقلها إلى قاعدة الخرطوم عام 1991م، إلا أنها أعيدت مرة أخرى لمنطقة جبل أولياء، عقب الزيادة الكبيرة في سرب الطائرات العمودية لسلاح الجو بالجيش السوداني. وتفاخر البشير لدى افتتاحها عام2011 بأن الجيش السوداني أصبح يمتلك مصانع حربية حديثة، تنتج عتادا حربيا متطورا من البندقية إلى الطائرات.
لماذا رفض البشير دكّها ؟
تؤكد روايات تاريخية مُختلفة أنّ حامية جبل أولياء رفضت الانصياع لأوامر قادة الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال عمر البشير، وعلى الفور اجتمع قادة الانقلاب الإخواني وطلبوا الرأي عن كيفية التعامل مع الحامية المتمردة.
أحد ضباط تنظيم الإخوان بالسودان ويدعى إبراهيم شمس الدين، طلب الإذن بمحاصرة الحامية المتمردة ودك حصونها المنيعة بالمدافع والدبابات، إلا أن البشير رفض الاقتراح بشدة متعللاً بأنه لا ينوي صبغ العهد الجديد بالدماء.
في المقابل لجأ البشير إلى حيلة ماكرة بدلاً من المواجهة العسكرية، فاقترح عرض منصب رئيس هيئة أركان الجيش السوداني لقائد الحامية المتمردة الفريق إسحق إبراهيم عمر الذي قبل عرض البشير وتولى رئاسة هيئة أركان الجيش السوداني؛ إلا أن هناك روايات أخرى تشير إلى أن نائب البشير حينها، الفريق الزبير محمد صالح عيّن الفريق إسحق بذلك المنصب الرفيع وفاء له، لأنه حظي- أي الزبير – بمعاملة كريمة عندما وضع رهن الاعتقال بالحامية بتهمة التورط بانقلاب عسكري ضد حكومة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي (1986 – 1989).
ناصر وعامر!
الحوادث التاريخية لحامية جبل أولياء لا تقف عند الحادثة المذكورة، فداخل ثكناتها الصخرية دبّـت أقدام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أثناء خدمته بحامية الجيش المصري هناك عام 1938م.
وفي تلك الثكنات الصخرية، ساقته أقداره لملاقاة ضابطين مصريين ستطبق شهرتهما الآفاق فيما بعد، هما عبد الحكيم عامر وزكريا محيي الدين. بعدئذ أسس عبد الناصر تنظيما سريا ضم ثلاثتهم. وفي بضع سنين كتب لأعضاء التنظيم المذكور، تغيير تاريخ بلادهم إلى الأبد، حينما أطاحوا بالملك فاروق فجر 23 يوليو/ تموز 1952م. ففي منطقة جبل أولياء، وضع جمال عبد الناصر- كما أسلفنا- اللبنات الأولى لتنظيمهم السري داخل الجيش المصري المعروف بتنظيم الضباط الأحرار، حسب ما أكدت روايات رفاق عبد الناصر بالتنظيم السري المشـار إليه.
وتشير روايات معاصرة لفترة خدمة عبد الناصر بحامية الجيش المصري بجبل أولياء، إلى أن ناصر أظهر حينها تواضعاً جماً وحماساً شديداً لمشاركة المواطنين في مناسباتهم. كما شُــوهد مَــرّات عديدة أثناء قيامه بجلب الحطب لإحدى خلاوي تحفيظ القرآن الكريم القريبة من الحامية.
تلك الصلات الوثيقة لم تنقطع بعد وصول عبد الناصر وتنظيم الضباط الأحرار إلى السلطة بمصر في 23 يوليو/تموز 1952، وكما هو معروفٌ عند استقلال السودان بعد ثورة يوليو بأعوام أربعة، أمر عبد الناصر المؤسسات التعليمية والثقافية المصرية بالسودان بمواصلة أعمالها، كما أمر بترك أسلحة وعتاد الجيش المصري بجميع الحاميات المصرية في السودان، من بينها حامية جبل أولياء بطبيعة الحال، هدية للجيش السوداني.
من أين جاء اسم جبل أولياء؟
جبل أولياء تقع على بُعد 40 كلم تقريبًا بالاتجاه الجنوبي للخرطوم على ضفاف النيل الأبيض بمنطقة صخور جبلية، إلا أن جبالها ذات ارتفاع منخفض، إذ لا يتعدى طول الجبل هناك 50 متراً تقريبًا. وجبل أولياء من المناطق المأهولة بالسكان، كما تضم معسكرات للاجئين الجنوبيين، وبها معالم شهيرة كخزان جبل أولياء الذي شيّدته الحكومة المصرية عام 1937م، وفاء لاتفاقية تقسيم مياه النيل، ولردح طويل اتخذته الحكومة المصرية كخط إضافي لتخزين مياه النيل وسد حوجة مصر للمياه بفترة الجفاف، إلا أن أهمية خزان جبل أولياء تلاشت عقب إقامة السد العالي في ستينيات القرن الماضي، حيث تفوق السعة التخزينية للسد العالي، سعة خزان جبل أولياء أربعين مرة.
يذكر أن خزان جبل أولياء أول سد في العالم يتم تشييده في أراضي دولة لمصلحة دولة أخرى. ويعد أيضاً أول سدّ يُقام على النيل الأبيض، ثاني أكبر رافد لنهر النيل، أطول أنهار العالم.
وهناك عدة روايات حول اسم المنطقة، توجد رواية مفادها أن الاسم اشتق من جبل أولي باللغة النوبية القديمة، وهناك رواية مُغايرة بأن المنطقة سُميت بهذا الاسم لكثرة الأولياء الصالحين الذين أقاموا بها وظهرت بها كراماتهم، إذ تشتهر المنطقة بكثرة خلاوي تحفيظ القرآن الكريم وتجويده، وأيضاً بكثرة الأضرحة والقباب لشيوخ وأعلام الطرق الصوفية بالبلاد.