يمكننا أن نتصور إلى أي حد يمكن لوسائل الإعلام بجميع أشكالها، أن تؤثر سلباً في الصورة التي نرسمها أو نريد أن نرسمها لأنفسنا وإلى أي حد يمكنها أن تمدنا بالإحساس بالتعاسة وعدم الرضا.
هذا البرواز الظاهري لصورة أجسادنا وتفاصيل ملامحنا، قد نجده في مرايا جمال خادعة تنعكس من خلال شاشات التلفزيون وصفحات مجلات الموضة العالمية ونصائح المتخصصين في عيادات التجميل. يأتي ذلك، من خلال تلال هائلة من إعلانات التلفزيون التي تروج لمستحضرات التجميل بجميع أشكالها، فضلا عن مقاييس الجمال والجاذبية والقوام الممشوق التي يمثلها نجوم السينما من الجنسين في ثقافة تسعى للتأثير في تغذية الحاجات المتزايدة لبلوغ المثالية لدى المتلقي، والتي تتحول بشكل ما إلى حاجة مرضية عند البعض لاستحالة تطبيق النموذج الفريد على الواقع الذي لا يمكن أن يكون كاملا مهما يحاول البعض.
ولأن سعي بعض الناس لمقاربة النماذج المبهرة للعين وتطبيقها على صورة الواقع، قد تسبب في تأجيل وإلغاء بقية الرغبات الشخصية الأخرى، وهذا لا يعتبر خيارا حرا، بل هو خيار الثقافة التي ترى في أي شيء عدا الجمال مكونات ثانوية لا يمكنها أن تسد (النقص) في تحقيق المواصفات الشكلية؛ فلا الذكاء ولا الثقافة ولا حتى المركز الاجتماعي يمكنه أن يسد الثغرات، من وجهة نظر بعض المجتمعات والثقافات التي باتت تروج للمظاهر بصورة هستيرية وتجند كل الوسائل الممكنة للدفع بها إلى سلم أولويات أفراد المجتمع، والدوافع – في الغالب- مادية بحتة؛ فخبراء الجمال والشركات المصنعة والشركات الموزعة ووسائل الإعلام المعنية، تشترك في هدف واقعي واحد، هو الربح المادي. أما الضحية، فغالباً ما يكون الشباب والمراهقون وعديد السيدات والفتيات اللاتي يعلقن آمالهن على حبال الخيال، في سعيهن الدائب للحصول على أكسير الجمال، الذي يمكنه إصلاح ما أفسده الدهر ولو بالقوة.
ويؤكد د/محمد يحي إستاذ علم النفس فى جامعة عين شمس
بأن صورتنا على أنفسنا تبدأ بالتشكل منذ سنوات الطفولة المبكرة، حيث نبدأ بتلقي الرسائل التي تمليها علينا ثقافتنا ومجتمعنا، فتتعلم الفتاة في محل لعب الأطفال مثلاً كيف يمكنها أو كيف يطالبها مجتمعها بأن تصبح أميرة بثياب وردية، في حين يكون لزاماً على الصبي تقبل فكرة أنه قوي وجريء وشجاع من خلال رسوخ صورة الممر الطويل للعب الذكور في ذهنه، هذا الممر الذي يغص بأبطال الفضاء الخارقين للعادة.
ومع مرور الوقت، ومن خلال لاوعينا، نبدأ بتقييم أنفسنا والآخرين ضمن هذه المعايير التي زرعتها في داخلنا ثقافتنا، وبالتالي، فإننا نكبر ونصبح رجالاً ونساء أكثر حساسية أمام ما تمليه علينا قوانين مجتمعنا. أن الفرد هنا يبدو وكأنه من دون إرادة تذكر، فهو أسير لرغبات الآخرين والثقافة التي ينتمي إليها، حيث يحرص على أن يكون (القيمة) التي يقررها هؤلاء ليصبح مرغوباً فيه وليحظى بمحبة وتقدير الناس، بصرف النظر عن قناعاته الشخصية أو قدراته الذاتية في بلوغ هذه المعايير، التي تبدو في أحيان كثيرة خانقة. وعموماً، فإن النزعة الاستهلاكية للمجتمع بمؤسساته النفعية تلعب دوراً أساسياً في تأجيج هذا الشعور، كما تلعب على عكس صورة قاصرة لذواتنا لحساب مصالحها الشخصية.
ولهذا تسعى شركات التجميل ووسائل الإعلام التي تسوق لها والمتخصصون في عمليات التجميل، إلى رسم صورة مشوهة لملامحنا وأجسادنا، لتقدّم بذلك الحلول والمراهم التجميلية وبرامج الحمية المكلفة لتحسين الصورة المشوهة، وكلما شعرنا بالمزيد من العيوب في مظهرنا كلما تضاعفت أرباح هذه الجهات.
وتشير مجموعة كبيرة من الأبحاث في هذا المجال، إلى أن هذه المفاهيم من شأنها أن تتسبب في مشاكل نفسية وجسدية ومالية لا حصر لها، متأتية من شعور متواصل بتدني صورة الذات لدى البعض بسبب ضغط وسائل الإعلام الحديثة. وفي قائمة الأمراض النفسية، هناك القلق واضطرابات الطعام والاكتئاب، كما أن البحث الدائم عن ما (يستر) عيوبنا الجسمانية من (ميكروسكوب) الثقافة المجتمعية التي تبحث عن الكمال، يدفعنا إلى إهدار مزيد من الطاقة والوقت والأموال من دون أي تقدم يذكر.
وترى الدكتورة فيفيان ديلر؛ وهي اختصاصية في الطب النفسي في عيادة خاصة بأننا يجب أن نواجه أنفسنا ونتحقق جيدا ما إذا كانت طموحاتنا الاستهلاكية هذه تمثل إرادتنا وقناعتنا الذاتية، أم إنها مجرد خنوع لقوانين ثقافة مجتمعنا الاستهلاكي. وهي تؤكد على أن التوق إلى الجمال الكامل أو المظهر المثالي فقد بعضا من قوته وتأثيره لدى العديد من النساء حتى الشهيرات منهن، حيث جاء الوقت لظهور أجيال جديدة تسعى إلى تغيير هذه الثقافة الاستهلاكية الزائفة، دفعها إلى ذلك الملل أو التعب من السعي المستمر لتغيير الصورة الحقيقية إلى أخرى مزيفة، كما أتعبها النظر المستمر إلى الوجوه (البلاستيكية) ذات الأنماط الرتيبة والتي أظهرت الجميع في ملامح واحدة مشتركة ومستهلكة.
وتضيف الدكتورة ديلر: الأصوات الجديدة التي بدأنا نسمعها ما زالت تسعى إلى تحقيق الجمال والجاذبية والمظهر الأنيق، لكنها تبحث عن سبيل آخر بعيد تماماً عن التصنع؛ فالجمال يعني أن يكون المرء جميلاً وراضياً عن ذاته وليس نسخة مقلدة ومملة